الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
قوله تعالى في أول ما أنزل: ذكر في الموضعـين بالإضافـة التي توجب التعريف، وأنه معـروف عند المخاطبـين، إذ الرب ـ تعالى ـ معروف عند العبد بدون الاستدلال بكونه خلق. وأن المخلوق مع أنه دليل وأنه يدل على الخالق، لكن هو معروف في الفطرة قبل هذا الاستدلال؛ ومعرفته فطرية، مغروزة في الفطرة، ضرورية، بديهية، أولية. وقوله: {اقْرَأْ} وإن كان خطابًا للنبى صلى الله عليه وسلم أولا، فهو / خطاب لكل أحد، سواء كان قوله: مثل قوله: وبهذا يبين أن قوله تعالى: ولا شك أن هذا لا يمنع أن يكون هو مخاطبًا ومرادًا بالخطــاب، بل هذا صريــح اللفـظ، فلا يجوز أن يقال: إن الخطاب لم يتناولــه. ولأن ليس في الخطــاب أنـه أمر بالسؤال مطلقًا، بل أمر به إن كان عنده شك، وهذا لا يوجب أن يكون عنـده شك. ولا أنـه أمـر بـه / مطلقًا، بل أمر بـه إن كـان هــذا موجـودًا، والحكـم المعلق بشــرط عـدم عنـد عدمه. وكذلك كثير من المفسيرين يقول في قوله: ولكن بتقدير أن يكون الأمر كذلك فهو ـ أيضًا ـ مخاطب بهذا، وهو منهي عن هذا. فالله ـ سبحانه ـ قـد نهاه عما حرمـه مـن الشرك، والقـول عليه بـلا علم، والظلم، والفواحش. وينهي الله له عن ذلك وطاعته لله في هذا استحق عظيم الثواب، ولولا النهي والطاعة لما استحق ذلك. ولا يجب أن يكون المأمور المنهي ممن يشك في طاعته ويجوز عليه أن يعصى الرب، أو يعصيه مطلقًا ولا يطيعه، بل الله أمر الملائكة مع علمه أنهم يطيعونه، ويأمر الأنبياء مع علمه أنهم يطيعونه، وكذلك المؤمنون كل ما أطاعوه فيه قد أمرهم به مع علمه أنهم يطيعونه. / ولا يقال: لا يحتاج إلى الأمر، بل بالأمر صار مطيعًا مستحقًا لعظيم الثواب. ولكن النهي يقتضي قدرته على المنهي عنه، وأنه لو شاء لفعله، ليثاب على ذلك إذا تركه. وقد يقتضي قيام السبب الداعى إلى فعله فينهي عنه، فإنه بالنهي وإعانة الله له على الامتثال يمتنع مما نهي عنه إذا قام السبب الداعى له إليه. وكذلك قد قيل في قوله: فقوله في هذه السورة: {اقْرَأْ} ، كقوله في آخرها: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وقوله: وكذلك قوله: وإذا كان كذلك، فكل إنسان في قلبه معرفة بربه. فإذا قيل له: وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن الإقرار والاعتراف بالخالق فطرى ضرورى في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة. وهذا قول جمهور الناس، وعليه حُذَّاق النظار، أن المعرفة تارة تحصل بالضرورة، وتارة بالنظر. كما اعترف بذلك غير واحد من أئمة المتكلمين. وهذه الآية ـ أيضًا ـ تدل على أنه ليس النظر أول واجب، بل أول ما أوجب الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {ا اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، لم يقل: [انظر واستدل حتى تعرف الخالق]. وكذلك هو أول ما بلغ هذه السورة، فكان المبلغون مخاطبين بهذه الآية قبل كل شيء ولم يؤمروا فيها بالنظر والاستدلال. وقد ذهب كثير من أهل الكلام إلى أن اعتراف النفس بالخالق وإثباتها له، لا يحصل إلا بالنظر. / ثم كثير منهم جعلوا ذلك نظـرًا مخصوصًا، وهو النظر في الأعراض، وأنها لازمـة للأجسام، فيمتنع وجود الأجسام بدونها. قالوا: وما لا يخلو عن الحوادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث. ثم منهم من اعتقد أن هذه المقدمة بينة بنفسها، بل ضرورية، ولم يميز بين الحادث المعين والمحدود وبين الجنس المتصل شيئًا بعد شيء؛ إما لظنه أن هذا ممتنع، أو لعدم خطوره بقلبه. لكن، وإن قيل هو ممتنع، فليس العلم بذلك بديهيًا. وإنما العلم البديهي أن الحادث الذي له مبدأ محدود كالحادث والحوادث المقدرة من حين محدود فتلك ما لايسبقها فهو حادث. وما لا يخلو منها لم يسبقها فهو حادث. فإنه إذا لم يسبقها كان معها أو متأخرًا عنها. وعلى التقديرين فهو حادث. وأما إذا قدر حوادث دائمة شيئًا بعد شيء، فهذا إما أن يقال: هو ممكن، وإما أن يقال: هو ممتنع. لكن العلم بامتناعه يحتاج إلى دليل، ولم تُعْلَم طائفة معروفة من العقلاء قالوا: إن العلم بامتناع هذا بديهي ضرورى، ولا يفتقر إلى دليل. / بل كثير من الناس لا يتصور هذا تصورًا تامًا، بل متى تصور الحادث قدر في ذهنه مبـدأ، ثم يتقدم في ذهنـه شيء قبـل ذلك، ثم شيء قبل ذلك، لكـن إلى غايــات محــدودة بحسب تقدير ذهنه، كما يقدر الذهن عددًا بعد عدد، ولكن كل ما يقدره الذهن فهو منته. ومن الناس من إذا قيل له: [الأزل] أو: [كان هذا موجودًا في الأزل]، تصور ذلك. وهذا غلط، بل [الأزل] ما ليس له أول، كما أن [الأبد] ليس له آخر، وكل ما يومئ إليه الذهن من غاية فـ [الأزل] وراءها. وهذا لبسطه موضع آخر. والمقصود ـ هنا ـ أن هؤلاء الذين قالوا: معرفة الرب لا تحصل إلا بالنظر، ثم قالوا: لا تحصل إلا بهذا النظر، هم من أهل الكلام ـ الجهمية القدرية ومن تبعهم. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور العلماء من المتكلمين وغيرهم على خطأ هؤلاء في إيجابهم هذا النظر المعين، وفي دعواهم أن المعرفة موقوفة عليه. إذ قد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب هذا على الأمة ولا أمرهم به، بل ولا سلكه هو ولا أحد من سلف الأمة في تحصيل هذه المعرفة. ثم هذا النظر ـ هذا الدليل ـ للناس فيه ثلاثة أقوال: / قيل: إنه واجب، وإن المعرفة موقوفة عليه، كما يقوله هؤلاء. وقيل: بل يمكن حصول المعرفة بدونه،لكنه طريق آخر إلى المعرفة. وهذا يقوله كثير من هؤلاء ممن يقول بصحة هــذه الطريقــة لكن لا يوجبها؛ كالخطأبي والقاضى أبي يعلى، وأبي جعفر السمنانى ـ قاضى الموصل شيخ أبي الوليد الباجي ـ وكان يقول: إيجاب النظر بقية بقيت على الشيخ أبي الحسن الأشعري من الاعتزال.وهؤلاء الذين لا يوجبون هذا النظر. ومنهم من لا يوجب النظر مطلقا كالسِّمْناني، وابن حزم وغيرهما. ومنهم من يوجبه في الجملة، كالخطَّأبي، وأبي الفَرَج المقْدِسي. والقاضى أبـو يعلى يقول بهذا تارة، وبهذا تارة، بل ويقول تارة بإيجاب النظر المعين، كما يقوله أبو المعالى وغيره. ثم من الموجبين للنظر من يقول: هو أول الواجبات، ومنهم من يقول: بل المعرفة الواجبة به، وهو نزاع لفظى. كما أن بعضهم قال: أول الواجبات القصد إلى النظر، كعبارة أبي المعالى. ومن هؤلاء من قال: بل الشك المتقدم كما قاله أبو هاشم. وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وغيرها في موضع آخر، / وبين أنها كلها غلط مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل وباطلة في العقل ـ أيضًا. وهذه الآية مما يستدل به على ذلك، فإن أول ما أوجب الله على رسوله وعلى المؤمنين هو ما أُمر به في قوله: والذين قالوا: المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، قالوا: لو حصلت بغيره لسقط التكليف بها، كما ذكر ذلك القاضى أبو بكر، وغيره. فيقال لهم: وليـس فيما قص الله علينا من أخبار الرسل أن منهم أحدًا أوجبها، بل هي حاصلة عند الأمم جميعهم. ولكن أكثر الرسل افتتحوا دعوتهم بالأمر بعبادة الله وحده دون ما سواه كما أخبر الله عن نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وقومهم كانوا مقرين بالخالق لكن كانوا مشركين يعبدون غيره، كما كانت العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم. ومن الكفار من أظهر جحود الخالق، كفرعون حيث قال: ومع هذا، فموسى أمره الله أن يقول ما ذكره الله في القرآن، قال: / وقد ظن بعض الناس أن سؤال فرعون فإن فرعون إنما استفهم استفهام إنكار وجَحْد، لم يسأل عن ماهية رب أقر بثبوته، بل كان منكرًا له جاحدًا؛ ولهذا قال في تمام الكلام: فبين موسى أنه معروف عنده وعند الحاضرين، وأن آياته ظاهرة بينة لا يمكن معها جحده. وأنكم إنما تجحدون بألسنتكم ما تعرفونه بقلوبكم، كما قال موسى في موضع آخر لفرعون: / ولم يقل فرعون: ومن رب العالمين؟ فإن [من] سؤال عن عينه يسأل بها من عرف جنس المسؤول عنه أنه من أهل العلم وقد شك في عينه، كما يقال لرسول عُرف إنه جاء من عند إنسان: من أرسلك؟ وأما [ما] فهي سؤال عن الوصف. يقول: أى شيء هو هذا؟ وما هو هذا الذي سميته رب العالمين؟ ـ قال ذلك منكرًا له جاحدًا. فلما سأل ـ جحدا ـ أجابه موسى بأنه أعرف من أن ينكر، وأظهر من أن يُشك فيه ويرتاب. فقال: ولم يقل: [موقنين بكذا وكذا]، بل أطلق، فأى يقين كان لكم بشيء مـن الأشـياء، فأول اليقين اليقين بـهذا الرب، كما قالت الرسل لقومهم: وإن قلتم: لا يقين لنا بشيء من الأشياء، بل سلبنا كل علم، فهذه دعوى السفسطة العامة، ومدعيها كاذب ظاهر الكذب. فإن العلوم من لوازم كل إنسان، فكل إنسان عاقل لابد له من علم؛ ولهذا / قيل في حد [العقل]: إنه علوم ضرورية، وهي التي لا يخلو منها عاقل. فلما قال فرعون: فبين له موسى أنكم الذين سلبتم العقل النافع، وأنتم أحق بهذا الوصف فقال: فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينية، وأعظمها في الفطرة الإقرار بالخالق. فلما ذكر أولًا أن من أيقن بشيء فهو موقن به، واليقين بشيء هو من لوازم العقل، بين ـ ثانيًا ـ أن الإقرار به من لوازم العقل. ولكن المحمود هو العلم النافع الذي يعمل به صاحبه، فإن لم يعمل به صاحبه قيل: إنه ليس لـه عقـل. ويقال ـ أيضًا ـ لمـن لم يتبع مـا أيقـن بـه: / إنـه ليس له يقين. فـإن اليقين ـ أيضًا ـ يراد به العلم المستقر في القلب ويراد به العمل بهذا العلم. فلا يطلق: [الموقن] إلا على من استقر في قلبه العلم والعمل. وقوم فرعون لم يكن عندهم اتباع لما عرفوه،فلم يكن لهم عقل ولا يقين. وكلام موسى يقتضي الأمرين: إن كان لك يقين فقد عرفته، وإن كان لك عقل فقد عرفته. وإن ادعيت أنه لا يقين لك ولا عقل لك، فكذلك قومك، فهذا إقرار منكم بسلبكم خاصية الإنسان. ومن يكون هكذا، لا يصلح له ما أنتم عليه من دعوى الإلهية. مع أن هذا باطل منكم، فإنكم موقنون بـه، كمـا قــال تعالى: ولكم عقل تعرفونه به، ولكن هـواكم يصدكم عن اتباع موجب العقل، وهو إرادة العلو في الأرض والفساد. فأنتم لا عقل لكم بهذا الاعتبار، كما قال أصحاب النار: قـال تعالى عـن فرعـون وقومـه: والمقصود ـ هنا ـ أنه ليس في الرسل من قال ـ أول ما دعا قومه ـ: إنكم مأمورون بطلب معرفة الخالق، فانظروا واستدلوا حتى تعرفوه. فلم يكلفوا ـ أولا ـ بنفس المعرفة، ولا بالأدلة الموصلة إلى المعرفة، إذ كانت قلوبهم تعرفه وتقر به، وكل مولود يولد على الفطرة، لكن عرض للفطرة ما غيَّرها، والإنسان إذا ذكر ذكر ما في فطرته. ولهذا قال الله في خطابه لموسى: كما قال تعالى: فالعلم بالحق يدعو صاحبه إلى اتباعه؛ فإن الحق محبوب في الفطرة، وهو أحب إليها. وأجل فيها، وألذ عندها من الباطل الذي لا حقيقة له؛ فإن الفطرة لا تحب ذاك. / فإن لم يدعه الحق والعلم به خوف عاقبة الجحود والعصيان، وما في ذلك من العذاب فالنفس تخاف العذاب بالضرورة. فكل حى يهرب مما يؤذيه بخلاف النافع. فمن الناس من يتبع هواه، فيتبع الأدنى دون الأعلى. كما أن منهم من يكذب بما خوف به، أو يتغافل عنه، حتى يفعل ما يهواه. فإنه إذا صدق به واستحضره لم يبعث نفسه إلى هواها، بل لابد من نوع من الغفلة والجهل حتى يتبعه؛ ولهذا كان كل عاص لله جاهلا، كما قد بسط هذا في مواضع. إذ المقصود ـ هنا ـ التنبيه على أن قوله: وعلى ذلك، دل قوله: وكذلك قول الرسل: / فإن حرف الاستفهام إذا دخل على حرف النفي كان تقريرًا، كقوله: فإن قيل: إذا كانت معرفته، والإقرار به ثابتًا في كل فطرة فكيف ينكر ذلك كثير من النظار ـ نظار المسلمين وغيرهم ـ وهم يَدَّعون أنهم الذين يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الإلهية؟. فيقال أولا: أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة هم أهل الكلام الذي اتفق السلف على ذمه ـ من الجهمية والقدرية. وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم. ولكن انتشر كثير من أصولهم في المتأخرين الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم فيه سلفهم الجهمية. فصار بعض الناس يظن أن هذا قول صدر في الأصل عن علماء المسلمين، وليس كذلك، إنما صدر أولا عمن ذمه أئمة الدين وعلماء المسلمين. الثاني: أن الإنسان قد يقوم بنفسه من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه، فإن قيام الصفة بالنفس غير / شعور صاحبها بأنها قامت به. فوجود الشيء في الإنسان وغيره غير علم الإنسان به. وهذا كصفات بدنه، فإن منها ما لا يراه كوجهه وقفاه. ومنها ما يراه إذا تعمد النظر إليه كبطنه وفخذه وعضديه. وقد يكون بهما آثار من خيلان وغير خيلان، وغير ذلك من الأحوال، وهو لم يره ولم يعرفه، لكن لو تعمد رؤيته لرآه. ومن الناس من لا يستطيع رؤية ذلك لعارض عرض لبصره من العشى أو العمى، أو غير ذلك. كذلك صفات نفسه قد يعرف بعضها، وبعضها لا يعرفه. لكن لو تعمد تأمل حال نفسه لعرفه. ومنها ما لا يعرفه ولو تأمل لفساد بصيرته وما عرض لها. والذي يبين ذلك: أن الأفعال الاختيارية لا تتصور إلا بإرادة تقوم بنفس الإنسان. وكل من فعل فعلا اختياريًا ـ وهو يعرفه ـ فلابد أن يريده، كالذي يأكل ويشرب ويلبس وهو يعرف أنه يفعل ذلك، فلابد أن يريده. فالفعل الاختياري يمتنع أن يكون بغير إرادة. وإذا تصور الفعل الذي يفعله وقد فعله لزم أن يكون مريدًا له وقد تصوره. وإذا كان مريدًا له وقد تصوره امتنع ألا يريد ما تصوره وفعله. / فالإنسان، إذا قام إلى صلاة يعلم أنها الظُّهر، فمن الممتنع أن يصلى الظهر ـ وهو يعلم هذا لم ينسه ـ ولا يريد صلاة الظهر. وكذلك الصيام إذا تصور أن غدًا من رمضان ـ وهو مريد لصوم رمضان ـ امتنع ألا ينوي صومه. وكذلك إذا أهل بالحج ـ وهو يعلم أنه مهل به ـ امتنع ألا يكون مريدًا للحج. وكذلك الوضـوء إذا علم أنه يتوضـأ للصـلاة ـ وهو يتوضأ ـ امتنع ألا يكون مريدًا للوضوء. ومثل هذا كثير؛ نجد خلقًا كثيرًا من العلماء ـ دع العامية ـ يستدعون النية بألفاظ يقولونها ويتكلفون ألفاظًا، ويشكون في وجودها مرة بعد مرة، ويخرجون إلى ضرب من الوسوسة التي يشبه أصحابها المجانين. والنية: هي الإرادة، وهي القصد، وهي موجودة في نفوسهم لوجودها في نفس كل من يصلى في ذلك المسجد والجامع، ومن توضأ في تلك المطهرة. أولئك يعلمون هذا من نفوسهم ولم يحصل لهم وسواس، وهؤلاء ظنوا أن النية لم تكن في قلوبهم ـ يطلبون حصولها من قلوبهم. / وهم يعلمون أن التلفظ بها ليس بواجب، وإنما الفرض وجود الإرادة في القلب ـ وهي موجودة ـ ومع هذا يعتقدون أنها ليست موجودة. وإذا قيل لأحدهم: [النية حاصلة في قلبك] لم يقبل لما قام به من الاعتقاد الفاسد المناقض لفطرته. وكذلك حب الله ورسوله موجود في قلب كل مؤمن، لا يمكنه دفع ذلك من قلبه إذا كان مؤمنًا. وتظهر علامات حبه لله ولرسوله إذا أخذ أحد يسب الرسول ويطعن عليه، أو يسب الله ويذكره بما لا يليق به. فالمؤمن يغضب لذلك أعظم مما يغضب لو سب أبوه وأمه. ومع هذا، فكثير من أهل الكلام والرأى أنكروا محبة الله، وقالوا: يمتنع أن يكون محبًا أو محبوبًا، وجعلوا هذا من أصول الدين، وقالوا: خلافًا للحلولية، كأنه لم يقل بأن الله يحب إلا الحلولية. ومعلوم: أن هذا دين الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، وأهل الإيمان أجمعين. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، كما قد بسطناه في مواضع. فهذه المحبة لله ورسوله موجودة في قلوب أكثر المنكرين لها، بل في قلب كل مؤمن ـ وإن أنكرها لشبهة عرضت له. / وهكذا المعرفة موجودة في قلوب هؤلاء. فإن هؤلاء الذين أنكروا محبته هم الذين قالوا: معرفته لا تحصل إلا بالنظر، فأنكروا ما في فطرهم وقلوبهم من معرفته، ومحبته. ثم قد يكون ذلك الإنكار سببًا إلى امتناع معرفة ذلك في نفوسهم وقد يزول عن قلب أحدهم ما كان فيه من المعرفة والمحبة ـ فإن الفطرة قد تفسد ـ فقد تزول، وقد تكون موجودة ولا ترى وقد قال تعالى: وفي الصحيحين، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: [كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء]، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: والفطرة تستلزم معرفة الله، ومحبته، وتخصيصه بأنه أحب الأشياء / إلى العبد ـ وهو التوحيد. وهذا معنى قول: [لا إله إلا الله]، كما جاء مفسرًا: (كل مولود يولد على هذه الملة)، وروى: [على ملة الإسلام]. وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: إنى خلقت عبادى حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وَحَرْمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهم، وأَمَرَتْهُمْ أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا). فأخبر أنه خلقهم حنفاء، وذلك يتضمن معرفة الرب، ومحبته، وتوحيده. فهذه الثلاثة تضمنتها الحنيفية، وهي معنى قول: (لا إله إلا الله). فإن في هذه الكلمة الطيبة التي هي وكل مولود يولد على الفطرة، وهي الحنيفية التي خلقهم عليها. ولكن أبواه يفسدان ذلك ـ فيهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، ويشركانه. / كذلك يجهمانه ـ فيجعلانه منكرًا لما في قلبه من معرفة الرب ومحبته وتوحيده. ثم المعرفة يطلبها بالدليل، والمحبة ينكرها بالكلية. والتوحيد المتضمن للمحبة ينكره من لا يعرفه، وإنما ثبت توحيد الخلق، والمشركون كانوا يُقرون بهذا التوحيد وهذا الشرك. فهما يُشرّكانه، ويُهودانه، ويُنصرانه، ويُمجسانه. وقد بسط الكلام على هذا الحديث وأقوال الناس فيه في غير هذا الموضع. وأيضا، مما يبين أن الإنسان قد يخفي عليه كثير من أحوال نفسه، فلا يشعر بها. إن كثيرًا من الناس يكون في نفسه حب الرياسة كامن لا يشعر به، بل إنه مخلص في عبادته وقد خفيت عليه عيوبه، وكلام الناس في هذا كثير مشهور؛ ولهذا سميت هذه: [الشهوة الخفية]. قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرياسة. فهي خفية تخفي على الناس، وكثيرًا ما تخفي على صاحبها. بل كذلك حب المال والثروة، فإن الإنسان قد يحب ذلك ولا يدرى. بل نفسه ساكنة ما دام ذلك موجودًا، فإذا فقده ظهر من / جزع نفسه وتلفها ما دل على المحبة المتقدمة. والحب مستلزم للشعور، فهذا شعور من النفس بأمور وجب لها. والإنسان قد يخفي ذلك عليه من نفسه. لا سيما والشيطان يغطى على الإنسان أمورًا. وذنوبه ـ أيضًا ـ تبقى رينًا على قلبه قال تعالى: ومنـه قولــه تعالــى: وقـال: قال تعالى: ولهذا كانت الرسل إنما تأتى بتذكير الفطرة ما هو معلوم لها، وتقويته، وإمداده، ونفي المغير للفطرة. فالرسل بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها، والكمال يحصل بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة.
وهذا النسيان ـ نسيان الإنسان لنفسه ولما في نفسه ـ حصل بنسيانه لربه ولما أنزله. قال تعالى: وقوله: / ونسيانهم أنفسهم يتضمن إعراضهم وغفلتهم وعدم معرفتهم بما كانوا عارفين به قبل ذلك من حال أنفسهم، كما أنه يقتضي تركهم لمصالح أنفسهم. فهو يقتضي أنهم لا يذكرون أنفسهم ذكرًا ينفعها ويصلحها، وأنهم لو ذكروا الله لذكروا أنفسهم. وهذا عكس ما يقال: [من عرف نفسه عرف ربه]. وبعض الناس يروى هذا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا يعرف له إسناد. ولكن يروى في بعض الكتب المتقدمة ـ إن صح ـ (يا إنسان، اعرف نفسك، تعرف ربك). وهذا الكلام سواء كان معناه صحيحا أو فاسدًا لا يمكن الاحتجاج بلفظه، فإنه لم يثبت عن قائل معصوم. لكن إن فسر بمعنى صحيح عرف صحة ذلك المعنى، سواء دل عليه هذا اللفظ أو لم يدل. وإنما القول الثابت ما في القرآن، وهو قوله: وحينئذ،فمن ذكر الله ولم ينسه، يكون ذاكرًا لنفسه،فإنه لو / كان ناسيا لها ـ سواء ذكر الله أو نسيه ـ لم يكن نسيانها مسببا عن نسيان الرب.فلما دلت الآية على أن نسيان الإنسان نفسه مسبب عن نسيانه لربه، دل على أن الذاكر لربه لا يحصل له هذا النسيان لنفسه. والذكر يتضمن ذكر ما قد علمه، فمن ذكر ما يعلمه من ربه ذكر ما يعلمه من نفسه. وهو قد ولد على الفطرة التي تقتضى أنه يعرف ربه ويحبه ويوحده. فإذا لم ينس ربه الذي عرفه، بل ذكره على الوجه الذي يقتضي محبته ومعرفته وتوحيده، ذكر نفسه، فأبصر ما كان فيها قبل من معرفة الله ومحبته وتوحيده. وأهل البدع ـ الجهمية ونحوهم ـ لما أعرضوا عن ذكر الله ـ الذكر المشروع الذي كان في الفطرة وجاءت به الشرعة، الذي يتضمن معرفته ومحبته وتوحيده ـ نسوا الله من هذا الوجه. فأنساهم أنفسهم من هذا الوجه، فنسوا ما كان في أنفسهم من العلم الفطري، والمحبة الفطرية، والتوحيد الفطري. وقد قال طائفة من المفسرين: {نَسُواْ اللّهَ}، أي: تركوا أمر الله { فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}، أى: حظوظ أنفسهم حيث لم يقدموا لها خيرًا، هذا لفظ طائفة ـ منهم البغوى ـ ولفظ آخرين ـ منهم ابن الجوزي ـ : حين لم يعملوا بطاعته. وكلاهما قال: {نَسُواْ اللّهَ} أى: تركوا أمر الله. / ومثل هذا التفسير يقع كثيرًا في كلام من يأتى بمجمل من القول يبين معنى دلت عليه الآية ولا يفسرها بما يستحقه من التفسير. فإن قولهم: [تركوا أمر الله]. هو تركهم للعمل بطاعته، فصار الأول هو الثاني. والله ـ سبحانه ـ قال: فإن قيل: هذا الثاني هو الأول لكنه تفصيل مجمل، كقوله: فلو كان الثاني هو الأول لكان: {نَسُواْ اللّهَ}، أي: تركوا العمل بطاعته، فهو الذي أنساهم ذلك. ومعلوم فساد هذا الكلام لفظًا ومعنى. ولو قيل: {نَسُواْ اللّهَ}، أى: نسوا أمره، { فَأَنسَاهُمْ} العمل بطاعته، أى: تذكرها، لكان أقرب، ويكون النسيان الأول على بابه. فإن من نسى نفس أمر الله لم يطعه. / ولكن هم فسروا نسيان الله بترك أمره. وأمره الذي هو كلامه ليس مقدورًا لهم حتى يتركوه، إنما يتركون العمل به، فالأمر بمعنى المأمور به. إلا أن يقال: مرادهم بترك أمره هو ترك الإيمان به. فلما تركوا الإيمان أعقبهم بترك العمل. وهذا ـ أيضًا ـ ضعيف، فإن الإيمان الذي تركوه إن كان هو ترك التصديق ـ فقط ـ فكفي بهذا كفرًا وذنبًا. فلا تجعل العقوبة ترك العمل به، بل هذا أشد. وإن كان المراد بترك الإيمان، ترك الإيمان تصديقًا وعملا، فهذا هو ترك الطاعة كما تقدم. وهؤلاء أتوا من حيث أرادوا أن يفسروا نسيان العبد بما قيل في نسيان الرب، وذاك قد فسر بالترك. ففسروا هذا بالترك. وهذا ليس بجيد، فإن النسيان المناقض للذكر جائز على العبد بلا ريب. والإنسان يعرض عما أمر به حتى ينساه، فلا يذكره. فلا يحتاج أن يجعل نسيانه تركًا مع استحضار وعلم. وأما الرب تعالى فلا يجوز عليه ما يناقض صفات كماله ـ سبحانه وتعالى ـ وفي تفسير نسيانه الكفار بمجرد الترك نظر. ثم هذا قيل في قوله تعالى:
قوله: ثم إذا عرف أنه الخالق فمن المعلوم بالضرورة أن الخالق لا يكون إلا قادرًا. بل كل فعل يفعله فاعل، لا يكون إلا بقوة وقدرة، حتى أفعال الجمادات. كهبوط الحجر والماء وحركة النار هو بقوة فيها. وكذلك حركة النبات هي بقوة فيه. وكذلك فعل كل حى من الدواب وغيرها هو بقوة فيها. وكذلك الإنسان وغيره. والخلق أعظم الأفعال، فإنه لا يقدر عليه إلا الله، فالقدرة عليه أعظم من كل قدرة، وليس لها نظير من قدر المخلوقين. وأيضًا، فالتعليم بالقلم يستلزم القدرة. فكل من الخلق والتعليم يستلزم القدرة. / وكذلك كل منهما يستلزم العلم.فإن المعلم لغيره يجب أن يكون هو عالمًا بما علمه إياه، وإلا فمن الممتنع أن يعلم غيره ما لا يعلمه هو. فمن علم كل شيء ـ الإنسان غيره ـ ما لم يعلم، أولى أن يكون عالمًا بما علَّمَه. والخلق ـ أيضًا ـ يستلزم العلم، كما قال تعالى: وأيضًا، فنفس الخلق ـ خلق الإنسان ـ هو فعل لهذا الإنسان الذي هو من عجائب المخلوقات. وفيه من الإحكام والإتقان ما قد بهر العقول. والفعل المحكم المتقن لا يكون إلا من عالم بما فعل. وهذا معلوم بالضرورة. فالخلق يدل على العلم من هذا الوجه، ومن هذا الوجه. وقد قال في سورة الملك وبسط هذا يطول، إذ المقصود ـ هنا ـ التنبيه على ما في الآيات التي هي أول ما أنزل. ثم إذا ثبت أنه قادر عالم، فذلك يستلزم كونه حيًا. وكذلك الإرادة تستلزم الحياة. والحي إذا لم يكن سميعًا بصيرًا متكلمًا، كان متصفًا بضد ذلك من العمى والصمم والخرس، وهذا ممتنع في حق الرب ـ تعالى. فيجب أن يتصف بكونه سميعًا بصيرًا متكلمًا. والإرادة؛ إما أن تكون لغاية حكيمة، أو لا. فإن لم تكن لغاية حكيمة كانت سفهًا، وهو منزه عن ذلك، فيجب أن يكون حكيما. وهو إما أن يقصد نفع الخلق والإحسان إليهم، أو يقصد مجرد ضررهم وتعذيبهم، أو لا يقصد واحدًا منهما، بل يريد ما يريد سواء كان كذا أو كذا. والثاني شرير ظالم يتنزه الرب عنه، والثالث سفيه عابث. فتعين أنه ـ تعالى ـ رحيم، كما أنه حكيم، كما قد بسط في مواضع.
إثبات صفات الكمال له طرق: أحدها: ما نبهنا عليه من أن الفعل مستلزم للقدرة ولغيرها. فمن النظار من يثبت أولا القدرة، ومنهم من يثبت أولا العلم، ومنهم من يثبت أولا الإرادة، وهذه طرق كثير من أهل الكلام. وهذه يستدل عليها بجنس الفعل، وهي طريقة من لا يميز بين مفعول ومفعول، كجهم ابن صفوان ومن اتبعه. وهؤلاء لا يثبتون حكمة، ولا رحمة، إذ كان جنس الفعل لا يستلزم ذلك.لكن هم أثبتوا بالفعل المحكم المتقن العلم.وكذلك تثبت بالفعل النافع الرحمة،وبالغايات المحمودة الحكمة. ولكن هم متناقضون في الاستدلال بالإحكام والإتقان على العلم؛ إذ كان ذلك إنما يدل إذا كان فاعلا لغاية يقصدها. وهم يقولون: إنه يفعل لا لحكمة، ثم يستدلون بالإحكام على العلم، وهو تناقض. كما تناقضوا في المعجزات حيث جعلوها دالة على صدق النبى، إما / للعلم الضرورى بذلك، وإما لكونه لو لم تدل لزم العجز. وهي إنما تدل إذا كان الفاعل يقصد إظهارها ليدل بها على صدق الأنبياء. فإذا قالوا: إنه لا يفعل شيئًا لشيء تناقضوا. وأما الطريق الأخرى في إثبات الصفات وهي: الاستدلال بالأثر على المؤثر، وأن من فعل الكامل فهو أحق بالكمال. والثالثة: طريقة قياس الأولى، وهي الترجيح والتفضيل، وهو أن الكمال إذا ثبت للمحدث الممكن المخلوق، فهو للواجب القديم الخالق أولى. والقرآن يستدل بهذه، وهذه، وهذه. فالاستدلال بالأثر على المؤثر أكمل، كقوله تعالى: وهكذا، كل ما في المخلوقات من قوة وشدة تدل على أن الله أقوى وأشد، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم، وما فيها من علم وحياة يــدل على أن الله أولى بالعلم والحياة. / وهذه طريقة يقر بها عامة العقلاء، حتى الفلاسفة يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة. وأما الاستدلال بطريق الأولى فكقوله: وذاك من جهة أنه هو جعله كاملا وأعطاه تلك الصفات. واسمه [العلي] يفسر بهذين المعنيين؛ يفسر بأنه أعلى من غيره قدرًا، فهو أحق بصفات الكمال. ويفسر بأنه العالى عليهم بالقهر والغلبة، فيعود إلى أنه القادر عليهم وهم المقدورون. وهذا يتضمن كونه خالقًا لهم وربًا لهم. وكلاهما يتضمن أنه نفسه فوق كل شيء، فلا شيء فوقه، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: [أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء]. / فلا يكون شيء قبله، ولا بعده، ولا فوقه، ولا دونه، كما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم وأثنى به على ربه. وإلا فلو قدر أنه تحت بعض المخلوقات، كان ذلك نقصًا، وكان ذلك أعلى منه. وإن قيـل: إنه لا داخـل العالم ولا خارجــه، كـان ذلك تعطيـلا لـه، فهو منزه عن هذا. وهـذا هـو العلي الأعلى، مع أن لفـظ [العلي] و [العلـو]، لم يستعمـل في القـرآن عند الإطلاق إلا في هذا ـ وهو مستلزم لذينك ـ لم يستعمل في مجرد القدرة، ولا في مجرد الفضيلة. ولفـظ [العلو] يتضمـن الاستـعلاء، وغير ذلك من الأفعال إذا عـدى بحرف الاستعلاء دل على العـلو، كقـوله: والسلف فسروا [الاستواء] بما يتضمن الارتفاع فوق العرش، كما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} قال: ارتفع. وكذلك رواه ابن أبي حاتم وغيره بأسانيدهم ـ رواه من حديث آدم بن أبي إياس، عن أبي جعفر، عن أبي الربيع، عن أبي العالية: {ثُمَّ اسْتَوَى}، قال: ارتفع. / وقـال البخاري: وقـال مجاهـد في قولـه: والمقصود ـ هنا ـ أن كل واحد من ذكر أنه خلق، وأنه الأكرم الذي علم بالقلم، يدل على هاتين الطريقتين من إثبات الصفات، كما دلنا على الطريقة الأولى ـ طريقة الاستدلال بالفعل. فإن قـوله: {الْأَكْرَمُ}، يقتضي أنه أفضـل مـن غيره في الكرم، والكرم اسم جامع لجميع المحاسن. فيقتضي أنه أحق بجميع المحامد، والمحامد هي صفات الكمال فيقتضي أنه أحق بالإحسان إلى الخلق والرحمة، وأحق بالحكمة، وأحق بالقدرة، والعلم والحياة، وغير ذلك. وكذلك قـولــه: {خَلَقَ} فـإن الخـالـق قـديـم أزلى، مستغـن بنفســه، واجب الوجود بنفسه، قيوم. ومعلوم أنه أحق بصفات الكمال من المخلوق المحدث الممكن. فهذا من جهة قياس الأولى. ومن جهة الأثر، فإن الخالق لغيره / الذي جعله حيًا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا، هو أولى بأن يكون حيا عالمًا قديرًا سميعًا بصيرًا. و فهذا استدلال بالمخلوق الخاص، والأول استدلال بجنس الخلق؛ ولهذا دل هذا على ثبوت الصفات بالضرورة من غير تكلف، وكذلك طريقة التفضيل والأولى، وأن يكون الرب أولى بالكمال من المخلوق. وهذه الطرق لظهورها يسلكها غير المسلمين من أهل الملل وغيرهم كالنصارى، فإنهم أثبتوا أن الله قائم بنفسه حتى يتكلم بهذه الطريق، لكن سموه [جوهرًا]، وضلوا في جعل الصفات ثلاثة، وهي الأقانيم. فقالوا: وجدنا الأشياء تنقسم إلى جوهر وغير جوهر، والجوهر أعلى النوعين، فقلنا: هو جوهر. ثم وجدنا الجوهر ينقسم إلى حى وغير حي، ووجدنا الحى أكمل، فقلنا: هو حي. ووجـدنا الحى ينقسـم إلى: ناطق وغير ناطق، فقلنا: هو ناطق. / وكذلك يقال لهم في سائر صفات الكمال: إن الأشياء تنقسم إلى قادر وغير قادر، والقادر أكمل. وقد بسط ما في كلامهم من صواب وخطأ في الكتاب الذي سميناه: [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح]. والمقصود ـ هنا ـ التنبيه على دلالة هذه الآية ـ وهذه الآيات التي هي أول ما نزل ـ على أصول الدين. وقوله: فقد دلت هذه الآيات على جميع الأصول العقلية، فإن إمكان النبوات هو آخر ما يعلم بالعقل. وأما وجود الأنبيــاء وآياتهم، فيعلم بالسمع المتواتــر، مع أن قولــه: / وقد ذكرنا ـ في مواضع ـ أن تنزيهه يرجع إلى أصلين: تنزيهه عن النقص المناقض لكماله. فما دل على ثبوت الكمال له فهو يدل على تنزهه عن النقص المناقض لكماله. وهذا مما يبين أن تنزهه عن النقص معلوم بالعقل، بخلاف ما قال طائفة من المتكلمين إن ذلك لا يعلم إلا بالسمع. وقد بينا في ـ غير هذا الموضع ـ أن الطرق العقلية التي سلكوها من الاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام لا تدل على إثباته، ولا على إثبات شيء من صفات الكمال، ولا على تنزهه عن شيء من النقائص. فليس عند القوم ما يحيلون به عنه شيئًا من النقائص. وهم معترفون بأن الأفعال يجوز عليه منها كل شيء بخلاف الصفات. لكن طريقهم في الصفات فاسد متناقض، كما قد بسط في غير هذا الموضع. الثاني: أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال. والقرآن مملوء بإثبات هذين الأصلين ـ بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل، وتنزيهه عن التمثيل ـ سبحانه وتعالى ـ عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
|